من كتاب ( يوميات مواطن كحيان ) قصة قصيرة. . بقلم / حمدي كسكين
سوق الأربعاء
تستيقظ أمي مبكرا ترتدي ثوبها الملس الكريشة المعلق أعلي مسمار حدادي خلف ضلفة الباب الكبير ذو الترباس الخشب وسرعان ماتلف الطرحة الحرير الطبيعي وتحمل المقطف الكبير المصنوع والمجدول من الخوص فوق رأسها كنت اتدثر ممسكا بتلابيب ثوب أمي لتصطحبني معها الي سوق الأربعاء وهو سوق قريتنا الأسبوعي كانت رحلتي الي السوق ممسكا بطرف عباءة أمي تشبه الي حد كبير رحلة المكتشف العظيم كريستوفر مكتشف الأمريكيتين الطريق طويل ويسير عليه صنوف شتي من البشر نسوة وصبايا ورجال وشباب ..صغار وكبار حمير وعربات كارو وجمال وجمالين والقاسم المشترك الغبار الذي يغطي الجميع من شدة الزحام علي جانبي الطريق تتم بعض عمليات البيع والشراء والمقايضة وتتعالي أصوات بعض التجار فجأة ودون مقدمات تتوقف أمي وتنزل المقطف من أعلي رأسها وتعد البيض علي التاجر وتبيعه كمية من البيض وتقبض فلوسها وقبل أن تغادر أمي مكانها تهرول تاجرة الزبدة التي تعرف أمي علي ما يبدو معرفة جيدة وبعد تبادل السلامات والعواف والقبلات تسأل أمي فيه معاكي خير يا أم محمد ..وترد أمي بابتسامتها المعهودة خير ربنا كتير يا حاجة خضرا …طب فرجينا يا اختي وتخرج أمي وعاء كبير من الألمنيوم مليئ بقطع الزبدة الجمسي وتعد أمي علي خضرة الزبدة وتستلم أمي الفلوس
وما أن نسير بضع خطوات إلا وتنادي تاجرة الجبن علي أمي وتستوقفها عواف يا ام فلان وبعض تبادل التحيات والسلامات تخرج وعاء كبير من الفخار مليان بقطع الجبن ويبدأ العد وهمهمات البيع والشراء وتقبض أمي الفلوس وتضعها في كيسها القماش فرغت أمي كل ما في بطن مقطفها من خيرات الله وانتهت من بيعه في دقائق معدودات ولم أنسي منظر جدتي وهي تضع لأمي الخير في مقطفها ويديها مرفوعة في تضرع لله أن ربنا يرزق أمي وترجع مجبورة الخاطر لاطعام هذه الأفواه الجائعة من كل ذي كبد رطبة من أفراد الأسرة في بيت العيلة الكبيرالجولة في سوق القرية ممتعة ومهيبة في نفس الوقت فلقد كانت بعض حكاوي الجدات لا تخلو عن سرقة العيال الصغيرة من السوق وذبحهم علي وابور الطحين بتاع عمي عجمي أو مكنة الطحين المملوكة لجدي رجب أفندي أو حكايات جدتي عن القرد الذي هرب من القرداتي في السوق أو الحاوي الذي شطر بنته لشطرين بالسيف
أو الخناقة التي نشبت بين تجار البهايم في قريتنا وتجار آخرين من قري أخري والتي استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة والمحرمة مثل ناف الطمبوشة أو بزخة المحراث البلدي أو الفؤوس والكواريك والتي تشارك فيها جزارين بلدنا بالخناصر والشواطير والسكاكين وكيف كانت الجدات يبالغن في آثار المعركة من عدد القتلي وكيف تحول السوق لبركة من الدماء وسالت فيه الدماء انهارا
كان السوق بالنسبة لطفل صغير في هذا الزمن السحيق مغامرة محفوفة بالمخاوف والمخاطر لكني كنت أعشقها بدأت أمي مشوار التسوق بالاسكافي أخرجت أمي من مقطفها عدد من الأحذية والشباشب البلاستيك التي أكل عليها الزمن وشرب وانتهي عمرها الافتراضي من عشرات السنين وأخذ الاسكافي يلحم الجزم البلاستيك بواسطة ما يشبه السكين الذي يوضع علي وابور مشتعل بالنار امامه ورائحة البلاستيك الملحوم والمحروق تشعط في أنفي وكأنك ملأت أنفي علي آخرها بالشطة الحارةويتعالي دخان البلاستيك المحروق الذي أصاب أنوف الذبائن بالزكام والرائحة العطنة في نهار الصيف التي تشوي لهيب شمسها أجساد الغلابةوعشرات القرويات بملابسهن السوداء التي نحل وبرها وتغير لون سوادها للأبيض من شدة ما أصاب الثوب من الجرب وتغير لونه مما يوحي بالفقر المدقع للنسوة اللاتى ينتظرون إصلاح احذيتهم البلاستيك عن طريق اللحام وما أن يفرغ الاسكافي من لحام الجزم والشباشب البلاستيك حتي تقذف أمي في يد الاسكافي تلات ابيض اوقرشين صاغ علي ما يبدو وتقذف الجزم في مقطفها الذي يتسع لكل بضاعة السوق من كبره
وتمر أمي علي بائع العرق سوس والسوبيا واطلب من أمي أن تشتري لي كوبا من السوبيا فتروي ظمأها بكوب عرقسوس وانا كوب سوبيا ثم تسارع أمي خطاها لتشتري احتياجات البيت الكبير من مونة الطعام التي تكفي البيت لمدة أسبوع بجنيهات معدودات وما أن فرغت أمي من شراء الزاد والزواد من المؤن الغذائية حتي نادتني أن اذكرها بشراء مصيدة وسم للفئران جلست أمي أمام بائع التوابل وبدأت في شراء الفلفل الأسود والكمون واحتياجات البيت من التوابل وبدأت أمي الفصال مع علي الأعور حيث كان يناديه الزبائن
امتلأ مقطف أمي بكل ما لذ وطاب وانتفخ المقطف الذي ينؤ بحمله العصبة أولي القوة السوق واسع رحيب لا موضع لقدم أصوات الباعة وعمليات المقايضة والفصال والبيع والشراء تغطي علي الجميع بدأت أشعة الشمس تخرج من خدر السماء وكأنها عروس مدللة تبث الضوء وتنثر الدفء علي الجميع ولا تستثني أحدا الفقراء يذهبون للسوق مبكرا قبل شروق الشمس لينتهوا من بيع الجبن والبيض والزبد واللبن وما احضروه لبيعه مبكرا ويتسوقوا بثمنه
مجتمع السوق مكانا لاجتماع بعض النسوة للفضفضة وتبادل الأخبار وهو مكان أيضا للصبايا لاستعراض جزء من جمالهن المسجون داخل جدران البيوت يتسوقن وفرصة لإلقاء نظرة علي الحبيب يختلسها خلسة من حبيبته أو يلقي عليها مجرد سلام أو يلقي منديلا مطرزا خلسة في يد حبيبته
السوق فيه متسع للجميع للفقراء لشراء ما يلزمهم أما الأغنياء والأعيان فما أن يصلوا للسوق إلا وتدب الحركة والحياة في عمليات البيع والشراء
كنت أكثر حظا من أخوتي في مصاحبة أمي لسوق الأربعاء وكان لي دورا مهما وحيويا في صحبة أمي ومساعدتها فإذا ثقل حمل المقطف علي رأس أمي فكانت أمي تضع المقطف بالقرب من احدي بائعات الطير التي تعرفهم وانا أجلس كالشرطي دوري الحفاظ علي مكنونات المقطف وتأمينه وحراسته وأمي تذهب لشراء احتياجاتها وتتسوق وتفرغ حمولة ما تسوقته في المقطف الذي بدأ يمتلئ علي اخره رويدا رويدا
كنت انتظر أمي من الانتهاء من مهمة التسوق وانا جالس أتابع تمتمات قروية مكسورة الخاطر تظهر عليها علامات البؤس والفقر ..
عوامل الزمن القاسية حفرت تقاسيمها علي وجهها الذي أمتلأ بالندوب والأخاديد والكرمشة وبقايا شقاء وتعب سنين تنطق بها مقلتيها صرت أطالع حال هذه القروية المسكينة وبضاعتها التي جاءت لعرضها بطة ضعيفة هذيلة تظهر عليها علامات الضعف وسؤ التغذية ومجموعة من البطات الصغيرات لم يخرج زغبها بعد وكأنها خارجة لتوها من عملية فقس بيضها
والبطة الأم تفرش جناحيها فوق صغارها في أمومة فطرت قلبي
والقروية الفقيرة بملابسها القديمة الرثة حافية القدمين التي تنتظر بيع البطة الراقدة علي صغارهاالتي أخرجتها وصغارها التي لم تنبت لهم سغب ولاريش من دفء مرقدها لتعرضها للبيع وكأنها صبية مازالت في فترة النفاس وقد أخذوها قسرا للبيع في سوق الرقيق هي ومولودها
أعاود النظر لوجه هذه المرأة وما زالت تردد بعض التمتمات والأدعية وتناجي ربها بأن ترجع مجبورة الخاطر ببعض أرغفة زاهية وبعض الأطعمة من ثمن البطة لاطعام أسرتها
جاءت أمي ورفيقتها بعد أن استكملت رحلة التبضع وكانت الشمس قد توسطت كبد السماء وازدادت حرارة الجو والبطات الصغيرات خفت صوت ثغاءهم وأصابهم الضعف وما يشبه الدوار من حرارة الجو فقالت أمي حرام عليكي يا بنتي اسقي البط ده شوية مية ..
البط يا بنتي هيفتص ويموت من الحر ….وفي نفس الوقت نادت أمي علي رفيقتها زينب ايه رأيك في شوية البط دول يا زينب
حلوين يا ام محمد لكن لسة صغار وخضر
خديهم يا زينب والنبي ربنا هيطرح فيهم البركة وهتربيهم وتاكلي من وراهم عيش
والله يا أم محمد لو معي تمنهم لكنت جبرت بصاحبة العيال الغلبانة دي واشتريتهم
فقالت لها أمي اشتريهم وتاخديهم تربيهم بالنص
وافقت زينب رفيقة أمي
عديهم يا زينب
١٤ بطة صغيرة وأمهم
سألت أمي صاحبة البطات عن ثمنهم
فقالت يا ما انت كريم يارب
اللي تجبيه يا حاجة
قدرت أمي البطات بضعف ثمنهم وحصلت القروية المسكينة علي الفلوس وهرولت تلحق تتسوق ببعض ماتسد به رمق جوع أسرتها
طالعت وجه أمي رأيت علامات الرضا في وجهها المشرق الصبوح
وبدأت أمي ورفيقتها تستعد للرحيل وحملت أمي المقطف المعبأ بحصيلة التسوق بكل مالذ وطاب من احتياجات البيت الكبير وهممنا بالخروج من السوق وانا ممسك بطرف ثوب أمي وزينب رفيقة أمي تتبادل معها بعض الضحكات وعند باب السوق تسمرت قدم أمي وهي تصيح موبخة زينب
اخصي عليكي يا زينب نسيت اشتري كحل الحجر ومشط العضم
ورجعت أمي لتشتري كحل الحجر ومشط العضم من المعلم شحتة أبو عزازي وكانت أمي قد طلبته منه في سوق الأربعاء المنصرم أعطي شحتة أمي كحل الحجر والمشط وأخذ يقسم بأغلظ الأيمان أنه كحل حجر يمني أصلي وغير موجود سوي في مكة في سوق الحريم
تناولت أمي كحل الحجر وكأنها اشترت علبة مكياج من محلات باريس المشهورة بعطورها وادوات تجميلها الباريسية
رجعنا الي البيت ..انزلت أمي المقطف من فوق رأسها امتدت يد أمي توزرع علي الصغار هذا حلاوة شعر وذاك حلاوة شقافة ناشفة وجامدة أشبه بجلمود صخر حطه السيل من عل
وجدتي وكل من في البيت يطالع ما تسوقته أمي بمهارة ودقة متناهية ولم تنسي طلبا واحدا