بقلم: محمد عبدالفتاح
رثاء فى ذكرى أخى جمال
ما ظننت يوما أنى سأرثيك ، فما علمت أن الموت يختار الصغير ، وعلمت أنك مقبل على الحياة راغب فيها ، ولكنك كأنك كنت تودع الأشياء .
فى مثل هذا اليوم رحل أخى جمال ، عن دنيا الناس ، إلى حياة أجمل عند ربه ، بعد حياة حافلة بالعطاء والحب لكل من عرفوه .
كان جمال طالبا فى معهد الخدمة ، وكان عاشقا لفريد الأطرش ، وفى كل عام كان يخرج ليغنى فى أعياد الربيع ، مع على فايق زغلول فى أوائل الطلبة ، أغنية ، عيد الربيع ، (عيد الربيع عاد من تانى ، والبدر هلت أنواره )، وكان والدى يهدده ويزجزه ليكُفَّ عن ذلك ، لكنه كان صاحب رأي وعزيمة .
تخرج جمال وعمل بشئون الطلاب بالمعهد ، وتدرج فى المناصب ، نال حب من عرفوه ، وكثيراً ما كان يتوسط أناس من القرى المجاورة ، ليأتى لهم بنتيجة اخر العام ، أو يأتى بكتاب من دكتور لطالب متعسر ، والله ما تأخر ولا تأفف ، رحمك الله يا جمال .
وكانت المفاجأة ، أننى كلما طلبت منه كتاباً لفلان أو علان يسارع ، وتبين لى أنه كان يشتريه من ماله الخاص ، نفسُهُ الأبية تأبى عليه أن يذلّ نفسه لأحد .
تلك النفس التى حملته على مجابهة رؤسائه ، من أجل حقوق زملائه الذين كانوا يضعونه فى الصدارة ، ولا يلبثون يتخلون عنه ، فما يزيده إلا إصرارا ، تم وقفه عن العمل أكثر من مرة ، ووقف راتبه ، لا لشيء شخصى ، إنما قضايا زملائه ، والحمد كان يخرج فى كل مرة منتصراً .
أحبّ كتابَ الله ، وداوم على ختمه ، قراءة المتأمل المتدبر ، وكثيراً ما يتصل بى ، يسألني عن مواقف إعرابيه يشك فيها .
ذات مرة قال كيف نُصب سليمان .؟ فى قوله تعالى (فلمّا جاءَ سُليمَان َ قالَ اتمدوننِ بمال ) ، فقلت له ، من ذهب للآخر سليمان أم رسول بلقيس قال رسول بلقيس ، قلت إذن سليمان مفعول ، فضحك من نفسه ظنا أن من أتى بعد الفعل فهو فاعل .
كان جمال ودوداً يعرف كيف يصلح القلوب ، وكان شفافَ النفس ، ناصعَ القلب ، حَييا ً ، كلما جاءنى ، وتناول الغداء ، أدخل لأخذ قيلولتى وأتركه يَسمُر مع أولادى ، رغم أنه يصغرنى فقط بعامين ، فأصحو على صوت ضحكاته ولعبه معهم ، كأنه واحد منهم .
كان جمال كريماً فوق المعهود من اى جود ، كان يبالغ فى العطايا ، وتعلو وجهه ابتسامة عذبة حانية متواضعة ، وكلما أتى الضيعة للزيارة بدأ بى أولا ، وقال أخذت عهداً أن تظل كبيراً .
كان لجمال النصيب الأكبر من اسمه ، كان يحزن لحزنى ويفرح لفرحى ، وكان قنوعا ، ونحن نتقاسم تركة أبى ، رضى بالقليل ، وكأنه كان يجنب نفسه الشحناء والبغضاء .
كان يبتهج لقدوم الربيع ، وها قد غادر الدنيا فى الربيع ، وكأن آخر ما تراه عينُه جمالَ الربيع ، رحل جمال وترك ذكرى تلو ذكرى ، وعطرا يتلوه عطر ، رحل جمال وفى كل ركن شاهد على بسمته وضحكته ،وحبه وتسامحه .
اليوم أبكيك يا جمال .
وما ظننت يوماً أنى سأبكيك .
- بقلم محمد عبد الفتاح