الثلاثاء , 3 ديسمبر 2024
الرئيسية » أقلام وأراء » الفرن البلدي مستودع الخير وذكريات الزمن الجميل

الفرن البلدي مستودع الخير وذكريات الزمن الجميل

بقلم / حمدي كسكين
الفرن البلدي مستودع الخير وذكريات الزمن الجميل
مازالت ذاكرتي تتذكر ذلك اليوم الذي اجتمعت جدتي ببعض النسوة من الأقارب والجيران وأصدرت لأمي فرمان سلطاني بضرورة بناء فرن بلدي جديد
والنسوة بمساعدة جدتي أختاروا المكان في تلك الساحة الواسعة أمام بيتنا والقريبة من بيت المنافع
وقد تم تغيير المكان الذي وقع عليه الاختيار من قبل أمي ورفيقاتها من النسوة أكثر من مرة بأوامر جدتي
كنت في ذلك الوقت طفلا لم يبلغ الحلم بعد وكان بناء الفرن
أقرب لمشهد بناء برج سكني في هذه الأيام
كانت ذاكرتي لم تنضج بعد وعقلي لم يتفتح علي الحياة ليستوعب قيمة الفرن البلدي المزمع بناؤه بالنسبة لأمي والنسوة القرويات ولم أكن أدري لماذا غيرت جدتي المكان أكثر من مرة
تمالكت شجاعتي وسألت جدتي عن سر تغيير مكان بناء الفرن البلدي ولماذا اختارت هي المكان بمعرفتها
وإذ بجدتي تخبرني أن المكان يجب أن يكون طاهرا من النجاسة ولا يكون مأوي للكلاب ولا ولغ فيه الكلب ولا مربطا للحمير ولا مكانا يقضي فيه المارة حاجتهم
لأن الفرن وخبيز العيش بركة ورزق وحتي تحل البركة بالخبيز يجب أن يبني الفرن في مكان طاهر
وتتجمع النسوة من الأهل والجيران ويستيقظن مبكرا ويجلبن الطمي اللازم للبناء من علي حافة الترعة وتستحضر جدتي احدي الخبيرات المتخصصات في بناء وهندسة الفرن البلدي وتتجمع النسوة يرددن الأهازيج الشعبية الممزوجة بالدعوات بأن تحل البركة علي المكان وتتعالي دعوات جدتي بصحبة جمع من الجدات أن لا يشعل نار ولا يتم خبز عيش في الفرن إلا في الفرح والهنا والنسوة يؤكدون الدعاء ويتممون عليه ويتم بناء الفرن وتأسيسه ويترك البناء الطيني ليجف ويعلو البناء كلما جف الطين ويأتي ميعاد نصب العرصة وهي الجزء الأهم في هذا الفرن والتي يتم من خلالها تسوية الخبز وكانت تصنع عادة من الطين المخلوط بالتبن والشرب وتنتهي أمي وجدتي بمساعدة القرويات من بناء هذا الصرح العظيم والأهم لإدارة عجلة اقتصاد البيت الريفي القديم
كان يوم الخبيز تعلن أمي فيه الطوارئ ولا صوت يعلو علي صوت شهيق النيران الصادر حرارتها من فوهات الفرن
مخلوطة بخرفشة الحطب الذي يبتلعه الفرن وأمي تجلس القرفصاء ممسكة المطرحة بكلتا راحتيها وتقرص عليها خالتي سعدية العجين أي تأخذ العجين الذي تم تخميره من اللقان وهو وعاء كبير من الفخار يتسع لكيلتين من الدقيق المعجون وتناول أمي العجين واضعة إياه علي المطرحة وأمي تحرك المطرحة بين راحتيها كعازف جيتار أتقن نوتته الموسيقية وبعد أن يستوي لها دقة صنع الرغيف تطرحه داخل الفرن ليتوسط العرصة وجدتي مستمرة في وضع الحطب يتلقفه بطن الفرن الجائع للنيران لتزداد حمرة النار توهجا سرعان ما تستوي الأرغفة الذاهية التي لو شمها جائع من فرسخ وثبا
وتعلو الأرغفة بعضها فوق بعض مرصوصة في شكل اسطواني دائري فوق المشنة وغطوسة الدميسة فوق الفرن تستوي علي تمهل لنستيقظ من النوم وقد أكملت أمي أعداد الخبيز وجهزت فول المدمسة الذي استوي علي نار هادئة فوق عرش الفرن المتوهج نسيت أن أذكركم بأن الغطوسة اناء من الفخار يوضع فيه الفول البلدي المخلوط ببعض حبات القمح وحبة البركة وبعض حبات الحمص وكمية صغيرة من العدس وكل هذا مما جادت به ارضنا الطيبة
وصديقات أمي يفترشن قش الأرز وقد استداروا حول الطبالي يفردون عجين الفطير المشلتت بالنشابة وهي عصي خشبية مخروطية ويضعن السمن البلدي المعجون به الدقيق وعلي وجه الفطير القشطة البلدي الفلاحي ويضعن الفطير في الفرن ليخرج والبخار يتصاعد منه وكأنه الخشاف وصواني الأرز المعمر بالحمام المخلي من عظامه وصواني البطاطس التي غمست بأعماقها الفراخ البلدي أو ذكور البط البلدي التي يسر منظرها الناظرينا وتجزب رائحتها الذكية الجوعي من مسافة كيلو مترات
كان يوم الخبيز من الأيام المشهودة في حياتي
وبعد أن تشرق الشمس من خدرها معلنة ميلاد يوم جديد تكون أمي انتهت من مهمتها لتأتي احدي الخالات من الأهل والجيران لتتبادل دورها في تسوية خبيزها كان فرننا البلدي مكان لتجمع النسوة ليساعدن بعضهن البعض في الخبيز
كان مكانا للفضفضة والتنفيس وتبادل الحكايات والصغيرات
من الفتيات اللاتي بلغن الحلم يفسح لهن المجال للتدريب علي الخبيز وعمل الفطير المشلتت وتبادل الخبرات من الجدات والامهات
كان من العار علينا أن نشتري خبز جاهز من أفران البندر أي المدينة توصم بيتنا وبيوت أهل القرية بالعار وتعطي دلالة واضحة أن البيت غير مستور بالخير والأم خايبة وبليدة وعاطلة لمجرد أنها لا تتقن الخبيز
وقبل أن يتحرك الرجال للغيطان يكونوا قد تناولوا الفطار بالفول المدمس الذي تم تسويته في الفرن والفطير المشلتت
واطباق القشطة والجبن القديم والمش والأرز المعمر
كان الفرن البلدي يمثل لنا في هذا الزمان الزاد والزواد
ومستودع الخير الوفير ماتت جدتي وماتت أمي وخالاتي ونسوة الحي لكن ضحكاتهم الصافية المجلجلة مازالت محفوظة في ذاكرتي وتدق طبلة أذني
ولم يعد للفرن البلدي في بيتنا موضع لرماده أو أثرا لمعالمه
وأصبح مجرد ذكريات من التراث الجميل.

شاهد أيضاً

“الشرود”… الخروج من القطيع يحتاج مغامرة وتضحية

نقله: محمد سيف   ‏لوحة “الخروج عن القطيع” -للفنان البولندي توماس كوبيرا توضح حجم الصراع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *