الثلاثاء , 7 مايو 2024
الرئيسية » أقلام وأراء » “صندوق جدتى” قصة قصيرة بقلم: حمدي كسكين

“صندوق جدتى” قصة قصيرة بقلم: حمدي كسكين

قصة قصيرة بقلم / حمدي كسكين
صندوق جدتي
أتذكر تلك الايام الخوالي لمنزلنا الرحب الفسيح وسط بستاننا الذي كان بمثابة جنة فيحاء من أشجار الموالح والمانجو وكل انواع الفاكهة في عزبة ابو الفضل باباظة وتكعيبة العنب التي تفترش مصطبة البيت من الناحية البحرية فتتدلي منها عناقيد العنب الحمراء والخضراء والسوداء كأنها مصابيح تضئ المكان ورائحة زهور الموالح تنتشر في المكان كأنك عبقته ببخور كمبودي وعطرته بالمسك والزعفران
كان بيتنا في ضاحية غناء تسمي عزبة ابو الفضل حيث بساتينها الفيحاء ومروجها الخضراء وهدؤها المعهود كأنك في منتجع تستجم أو كأنك تعيش في جنات النعيم
كانت ابو الفضل لاتغلق أبواب بيوتها ليلا او نهارا فالأمن والطمأنينة يرخي سدوله علي الجميع
كان الخير والبركة القاسم المشترك بين الجميع
كنا صغار نستيقظ من الفجر لنساعد اهالينا في شغل الغيط
وبعد مشقة العمل بالغيط نذهب لنلهو ونلعب او نذهب الي المشروع وهو ترعة واسعة يجري ماؤها رقراقا يحمل الخير والنماء والرواء لعزبتنا التي يمر بجوارها
كنا نستحم في مائه ونتعلم السباحة صغارا ونضع جوبية السمك علي جسوره ثم نخرجها بعد ساعات وقد امتلأت بالسمك الصابح الجميل وبعد ان نتعب من السباحة واللعب نستلقي تحت شجر الجوافة الوارف الظلال ثم نقوم نتسلق اشجار الجوافة ونقطف من ثمارها الناضجة الطرية الغضة الدانية القطوف اتعجب لتلك الشجرات التي يأكل منها كل ذي كبد رطبة من طير او أنس او حيوان وكلما قطفت ثمرة تزداد ثمرات كانت حبة الجوافة الواحدة تشبع جائع قد أعياه الجوع وقطعت به السبل فالمكان لا توجد به محلات لبيع الإطعمة مما جعل من اشجار الجوافة ملك ال ابو الفضل ملاذا امنا لكل جائع او فقير او مسكين او عابر طريق كان يقطف بعض الثمرات ويسد جوعه وملاك الجوافة لايتبرمون فقد وهبوها لله رب العالمين ولذلك كانت البركة تحل علي المكان وأهله واذا تمردنا علي الجوافة نذهب في مجموعات لنشت صف النخل الذى يزيد طوله عن نصف كيلو متر وهو نخيل قديم تراثي من الزمن الجميل كان قد زرعه الجد المؤسس حسن ابو الفضل الكبير حيث كانت النخلات تسقط رطبا جنيا للاكلين كنا نلتقم حبات الرطب الجني فتشبع جوعنا ثم نإخذ ما يكفي حاجتنا طوال اليوم
ملأت حجري بالرطب وبعض ثمار الجوافة وذهبت للبيت الكبير حيث نادتني جدتي … فرغت حمولة حجري من الرطب والجوافة داخل غرفة جدتي في مشنة صغيرة
كان بيتنا يتكون من جزئين البيت الكبير الذي نستقبل فيه ضيوفنا وننام فيه وهو مسقوف بألواح الخشب الجميلة ومبني من الطين وبيت اخر مفتوح عليه من خلال بوابة خلفية اسمه بيت المنافع به عدة غرف ومسقوف من جذوع النخيل والسدة المقشورة وتوجد به غرفة جدتي حيث جدتي الحارس الإمين علي دولاب اللبن وخزين البيت وصوامع الغلال وجرار الجبن القديمة والمش وحصر الجبن القريش الصابح
وطواجن اللبن الرايب التي تعلوها طبقة سميكة من القشطة
ومشنات العيش الفلاحي والعيش الملدن
كانت جدتي لها دور محوري في البيت وفي وتوزيع الادوار
ولها الحق المطلق في ادارة دولاب العمل فيما هو متعلق بتصريف امور البيت فهي من تحدد موعد الطحين وهي من تنزل الغلة والذرة من الصوامع وهي من تصدر فرمان سلطاني يحدد موعد الخبيز
سألتني جدتي انت جعان ..
اه ياجدة انا ميت من الجوع
اصبر شوية وانا هجهزلك لقمة تاكلها
حاضر ياجدة
سخنت جدتي رغيف عيش طري فلاحي علي المسخنة
علي الراكية المشتعلة بالخشب
واحضرت رقاقة وفتتها في اللبن وطقت بيضتين في القشطة
علي نار الراكية ووضعتهم امامي علي طبيقة مصنوعة من جريد النخيل الملون
كانت جدتي علي مايبدو مشغولة بشئ ما انا لم اعيره اهتماما حيث كنت مشغولا عنها بالتقام لقيمات شهية يقمن صلبي ..التهمت ما اعدته جدتي من طعام شهي
وطالعت وجه جدتي الصبوح الذي مازال يحمل جمالا رغم عاتيات الزمن ونوازله التي انهكت قواها وانا اطالع وابحلق في صندوقها الخشبي القابع في ركن أمين من المنضرة الرحبة الفسيحة التي تأوي كائنات شتي من مخلوقات الله
كلما طالعت عيناي صندوق جدتي تتوتر وتزمجر ويعلو صوت صياحها وبدأت تصب لي كوب لبن حليب
وهي تنادي صارخة بتبص علي ايه هو فيه حاجة تخصك في المنضرة
اطلع برة
اطلع اشرب كباية اللبن برة
تسمرت قدماي وانا مستغرق في النظر
و البحلقة الي صندوق جدتي
وتسمرت قدامي بعد ان زاد شغفي في مطالعة صندوق جدتي ومعرفة محتوياته
شدتني جدتي بالقوة لتخرجني من غرفتها
اطلع غور اشرب اللبن برة
وخرجت اجر اذيالي وعقلي الصغير مازال يحن لفك شفرات صندوق جدتي وسبر اغواره
كانت جدتي علي مايبدو اخرجت بعضا مما في بطن صندوقها لتعيد ترتيبه
او تسترجع ذكرياتها القديمة مع محتويات صندوقها الخشبي
الغامض باسراره علي طفل مثلي
كان صندوق جدتي صندوق وسط مصنوع من خشب أكل عليه الزمن وشرب فتحول لونه الي اللون البني المعتق لقدمه وكانت تزينه بعض الحلية من القطع النحاسية الموجودة علي جوانبه وكانت من حليته بعض المسامير التي تزينه في شكل هندسي البارزة رؤسها كقطع العملات القديمة الصدئة التي تشبه النكلة والمليم والمعدن وهي عملات قديمة
منذطقولتي وانا احاول العثور علي مفتاح صندوق جدتي لكنها كانت تحكم ربطه في جديلة شعرها وكانت تدور في ذهني الصغير عدة اسئلة
ما هذا الصندوق التي تحتفظ به جدتي ؟؟؟
وماذا بداخله ؟؟ وما محتوياته ؟؟ وهل يحتوي هذا الصندوق علي بعض الاسرار العسكرية مثلا ؟؟ او ربما سرقت جدتي شفرات المفاتيح السرية لمنظومة الحرب النووية وتستطيع ان تدمر العام من خلال صندوقها القديم ولما كلما اقتربت انا او احد اخوتي من هذا الصندوق ننال عقابا قاسيا بالضرب ببلغة جدتي التي تشبه في صلابتها بزخة المحراث البلدي ؟؟؟؟؟
وكان يدور في ذهني ان صندوق جدتي لابد يحتوي علي سر ما لجدتي ولذلك هي تحيطه بهالة من السرية الممزوجة بالرهبة والخوف حيث لايحق لنا الاقتراب او التصوير او مجرد طرح الاسئلة حول هذا الصندوق الغامض والمحاط بالسرية
ظل صندوق جدتي مغلف بالسرية والخوف بالنسبة لي الا ان جاءت يوما احد النساء ونادت بأعلي صوتها علي جدتي ياحاجة
ياحاجة ….يا حاجة عزيزة خرجت استطلع الامر لكن المرأة اعادت المناداة يا حاجة ياجماعة البيت
ونادتني نادي الحاجة الكبيرة يابني …..
انادي جدتي وتطلب منها المرأة في مسكنة وانكسار خرزة الطرفة
وجدتي تقول لها خير يابنتي ..ربنا يجعله خير
جوزي يا حاجة مطروف دخل في عينه عود وهو بيجمع القطن مع الانفار في الغيط
تدخل جدتي غرفتها وتفتح الصندوق وتعطي المرأة خرزة الطرفة وتقول لها والنبي يابنتي بعد ما تقضوا حاجتكم وربنا يجيب الشفا رجعيها بسرعة
حاضر يا حاجة ربنا يشفيه ويجيب العواقب سليمة يارب
وتاتي امراة اخري ساعة العشاء طالبة من جدتي طاسة الطربة ويدور حوار بينهما شارحة لها جدتي طريقة عمل طاسة الطربة كي تعم الفائدة وتخاطبها جدتي خير يا بنتي انتي واخدة طاسة الطربة لمين ؟؟؟؟
وترد القروية المسكينة علي جدتي ان
زوجها مخضوض بعد ان نادته النداهة وهو بيسقي الغيط ليلا
حاولت مرارا التسلل من شباك منضرة جدتي الي حيث الصندوق لسبر اغواره وكشف مكنونه لكن في كل مرة اقع متلبسا بيد جدتي التي تمطرني بوابل من الشتائم وتضربني علقة سخنة من بلغتها
واتعلل بانني دخلت لشرب اللبن الرايب او احضار قطعة جبن
لكن جدتي لا تاخذ بهذه الأعذار
كانت منضرة جدتي مكان رحب وفسيح بها سرير حديدي له اربعة اذرع وقد غطته ناموسية ومفروش بمفرش مطرز من القطن وحيطان الغرفة بها العديد من البناني الفخارية التي يتخذها الحمام عشش له وحاضنة لبيضه وصغاره وقفص صغير مصنوع من الجريد ملئ بالكتاكيت التي لم ينبت لها سغب بعد
وترقد في ركن من منضرة جدتي أوزة علي بعض صغارها كانت كل هذه الطيور تستطعم الحياة برفقة جدتي وتسير الحياة متناغمة بين جدتي وكل هذه الكائنات من الطير تعيش في ضيافتها ومعيتها حتي الارانب حفرت لها اخدودا واصلا لغرفة جدتي
وفي كل مرة تذهب جدتي لزيارة احدي عماتي نتسلل الي غرفة جدتي انا واخوتي محاولين فتح صندوقها الا ان ضجة الطيور وحركتها تحدث ضجيجا سرعان ما تنتبه أمي وتحضر لتوبيخنا وطردنا علي الفور
دفعني الفضول وشغف الاكتشاف وألتهمتني دوافعي الطفولية الي فتح صندوق جدتي السحري اكثر من مرة
وفي كل مرة تمسكني جدتي متلبسا فأنال حظي من الضرب والتوبيخ
لم افقد الامل بدوافعي الطفولية فاعتليت سطح المنزل وطالعت جدتي من الطقة التي تتوسط عرش غرفتها ونمت اطالع جدتي وهي تعبث في اشيائها الخاصة من محتويات صندوقها وكانت امي فوق السطح ترص الجلة التي كانت معيارا للقيمة للاسر في ذلك الوقت فالبيت الذي تتراص طبقات الجلة علي حوافه يعتبر هذا دليلا علي ان البيت مستور ومن يعيشون فيه في بحبوحة من الرزق
كنت لم اطالع امي لكنها كذلك مسكتني متلبسا بالتلصص علي جدتي من طقة غرفتها
وانا في غمرة دهشتي وانفعالي وتساؤلي الطفولي في متابعة النظر لجدتي تلهب امي مؤخرتي بالضرب و علي ظهري والتي امسكت بي بكلتا يديها كي لا اندفع جريا والقي بنفسي من فوق السطح
وامي تصرخ انت بتبص علي جدتك ليه وشاغل نفسك بصندوقها ليه وانا كالعصفور الصغير قابعا بين يدي امي وفي عيوني بدأت تتشكل الدموع وسرعان ماعبرت عن نفسها بالبكاء …مضت لحظات عابرة كان الصمت سيدها
وانا لا استطيع النطق ببنت كلمةفاطلقت امي سراحي
وهرولت الي السلم لانزل من فوق السطح
وتمر الايام وتمضي السنين وانا مازال عقلي الصغير معلقا ومشغولا بصندوق جدتي
كنت انا الوحيد من بين اخوتي الذي اشارك جدتي النوم في سريرها كنت اذا ذهبت جدتي ناحية الصندوق اتظاهر بالنوم
لكن طرفا عيناي يتابعان حركة جدتي ..تشعل جدتي اللمبة نمرة عشرة بعد ان تأكدت من استغراقي في النوم
تفتح صندوقها بهدؤ وترقب …تخرج بعضا من محتوياته
وانا اتابع ما اخرجته جدتي كاتما لانفساني
علي ما يبدو ان صندوق جدتي يشبه الة الزمن
فمحتوي الصندوق فيه بعض من ذكرياتها ..في شبابها وصباها وفي صغرها وكبرها محتويات الصندوق هي بمثابة تأريخ لحياة جدتي فكل قطعة في محتواها لها ذكري مع جدتي

اتأمل جدتي وهي تخرج بعض الأشياء من الصندوق وتتفقدها برفق وحنان وطيبة قلب ثم تقبلها وتحتضنها وتترقرق الدموع في ملقتيها باكية مرة ومبتسمة مرات
علي ما يبدو ان جدتي تستعرض بعض القطع التي تحمل ذكرياتها بل ذكريات غالية عليها جدا
ما زالت جدتي تخرج ما في احشاء صندوقها وانا اكتم انفاسي متظاهرا بالنوم لكنني ثاقب البصر متابعا لجدتي
علي ما يبدو صندوق جدتي قيمة الاشياء التي بداخله ليست قيمة مادية لكنه جزء من حياتها وترجمان لايام سعيدة واخري تعيسة كانت علي مدي عمرها
صندوق جدتي كل قطعة فيه هي جزء من تاريخها
ما زالت جدتي تتفحص محتويات صندوقها بوجدان جريح
وشعور ممتزج بين الفرحة والبكاء علي ايام خوالي وقصة حياة وايام مليئة بالشقي والتعب والمسئولية
تخرج جدتي بعض الاوراق التي ربطتها باحكام
بعضها عبارة عن قسيمة زواج وقائمة محتويات بعش الزوجية
وحجة ارض زراعية او حجة بيت قديم كانت تمتلكه
وبعض الكمبيالات وعقود تملك لبعض النخيل في اماكن متفرقة وعقود شركة لبعض البقر والبهائم التي اخرجتها بالنصف
كان يتغير مزاج جدتي مع كل قطعة تمسكها وتخرجها من صندوقها الخشبي فاذا امسكت بقطعة تحمل لها ذكري سعيدة تتبسم ضاحكة واذا صادفت قطعة اخري تحمل لها ذكري تعيسة ينقلب مزاجها وقدتحزن وتبكي
ماتت عمتي الكبيرة وبدلت جدتي ملابسها وارتدت ملابس سوداء وطرحة سوداء وذهبت لبيت عمتي مع امي وبعض النسوة لتقبل العزاء في عمتي ….. وذهبت انا لأنام في فراش جدتي وجدت مفتاح صندوقها وقد حلته من جديلة شعرها ومن فرط حزنها علي فراق بنتها نسيت المفتاح ساقطا علي السرير
قفلت باب منضرة جدتي وفتحت صندوقها وكان كل من في البيت ذهب لحضور واجب العزاء
كان بالصندوق بعض براقع جدتي وقطع قماش لم يتم تفصيلها وعدد من سبح التسبيح وعدد اخر من المسابح المفروطة حباتها داخل الصندوق وفستان زفاف جدتي مكانه الطبيعي في احد متاحف الانتيكات والقطع التراثية
ومجموعة احجار صوان صغيرة مكتوب علي احداها انها جلبت من القدس حيث كان يسافر جدي للقدس ليعمل هناك
وبعض تذاكر القطار القاهرة القدس ذهابا وعودة
وبعض المحارم والشراشف وهون نحاسي صغير ومبخرة ومكحلة وبعض انواع الكحل الحجر والعديد من أمشاط الشعر العضم وبعض الفليات
وبعض صور قديمة لجدي وهوفي القدس يعمل هناك
وطاسة الطربة وخرزة الطرفة وماء ورد وبخور
وبعض قطع من حليها من الحديد والخرز والفضة والدهب ومجموعة من الخلاخيل جمع خلخال من الفضة
وعطر قديم معتق والعديد من المصاحب وبعض الجوابات التي كان جدي يرسلها بالبريد من فلسطين
واشياء تراثية قديمة اخري لا استطيع ان احصيها
كانت كل قطعة موجودة داخل صندوق جدتي ترجمان لحياتها
وجزء من ذكرياتها
كان الصندوق بالنسبة لجدتي كألة الزمن التي تعبر عن مسار حياتها وتمثل تأصيل أكيد لقصة كفاح الجدات.

شاهد أيضاً

التافهون قد حسموا المعركة لصالحهم

بقلم: د. دميان مرقص “إن التافهين قد حسموا المعركة لصالحهم في هذه الأيام، لقد تغير …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *